الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن زيد أن حكم الآية حين كان الإسلام قليلًا فلما كثر وفشا قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} [التوبة: 122]، وأنت تعلم أن الإسلام كان فاشيًا عند نزول هذه السورة، ولا يخفى ما في الآية من التعريض بالمتخلفين رغبة باللذائذ وسكونا إلى الشهوات غير مكترثين بما يكابد عليه الصلاة والسلام، وقد كان تخلف جماعة عنه صلى الله عليه وسلم كما علمت لذلك، وجاء أن أناسًا من المسلمين تخلفوا ثم ان منهم من ندم وكره مكانه فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم غير مبال بالشدائد كأبي خثيمة فقد روي أنه رضي الله تعالى عنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب والماء البارد فنظر فقال: ظل ظليل ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح ما هذا بخير مقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال عليه الصلاة والسلام: «كن أبا خيثمة» فكانه ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له.{ذلك} إشارة إلى ما دل عليه الكلام من وجوب المشايعة {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} أي شيء من العطش.وقرئ بالمد والقصر {وَلاَ نَصَبٌ} ولا تعب ما {وَلاَ مَخْمَصَةٌ} ولا مجاعة ما {فِى سَبِيلِ الله} في جهاد أعدائه أو في طاعته سبحانه مطلقًا {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكفار} أي يغضبهم ويضيق صدورهم والوطء الدوس بالأقدام ونحوها كحوافر الخيل وقد يفسر بالإيقاع والمحاربة.ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «آخر وطأة وطأها الله تعالى بوج» والموطئ اسم مكان على الأشهر الأظهر، وفاعل {يَغِيظُ} ضميره بتقدير مضاف أي يغيظ وطؤه لأن المكان نفسه لا يغيظ، ويحتمل أن يكون ضميرًا عائدًا إلى الوطء الذي في ضمنه، وإذا جعل الموطئ مصدرًا كالمورد فالأمر ظاهر {وَلاَ يَنَالُونَ} أي ولا يأخذون {مِنْ عَدُوّ نَّيْلًا} أي شيئًا من الأخذ فهو مصدر كالقتل والأسر والفعل نال ينيل.وقيل: نال ينول فأصل نيلًا نولًا فأبدلت الواو ياء على غير القياس، ويجوز أن يكون بمعنى المأخوذ فهو مفعول به لينالون أي لا ينالون شيئًا من الأشياء {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ} أي بالمذكور وهو جميع ما تقدم ولذا وحد الضمير، ويجوز أن يكون عائدًا على كل واحد من ذلك على البدل.قال النسفي: وحد الضمير لأنه لما تكررت {لا} صار كل واحد منها على البدل مفردًا بالذكر مقصودًا بالوعد، ولذا قال فقهاؤنا: لو حلف لا يأكل خبزًا ولا لحمًا حنث بواحد منهما ولو حلف لا يأكل لحمًا وخبزًا لم يحنث إلا بالجميع بينهما، والجملة في محل نصب على الحال من {ظَمَأٌ} وما عطف عليه أي لا يصيبهم ظمأ ولا كذا إلا مكتوبًا لهم به {عَمَلٌ صَالِحٌ} أي ثواب ذلك فالكلام بتقدير مضاف، وقد يجعل كناية عن الثواب وأول به لأنه المقصود من كتابة الأعمال، والتنوين للتفخيم، والمراد أنهم يستحقون ذلك استحقاقًا لازمًا بمقتضى وعده تعالى لا بالوجوب عليه سبحانه.واستدل بالآية على أن من قصد خيرًا كان سعيه فيه مشكورًا من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك، وعلى أن المدد يشارك الجيش في الغنيمة بعد انقضاء الحرب لأن وطء ديارهم مما يغيظهم.ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لابني عامر وقد قدما بعض تقضي الحرب، واستدل بها على ما نقل الجلال السيوطي أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على جواز الزنا بنساء أهل الحرب في دار الحرب {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} على إحسانهم، والجملة في موضع التعليل للكتب، والمراد بالمحسنين إما المبحوث عنهم ووضع المظهر موضع المضمر لمدحهم والشهادة لهم بالانتظام في سلك المحسنين وأن أعمالهم من قبيل الإحسان وللاشعار بعلية المأخذ للحكم وإما الجنس وهم دخولًا أوليًا. اهـ.
ولم يزيدوا في بيانه على هذا، وهو تركيب بديع غريب، ومعناه ساقه الله إلينا. وجعله إياه، ليكون هو القادم علينا، فأقيم فيه العلة مقام المعلول في الجملة الدعائية الإنشائية، على حد قوله في الحديث: «أبْلِ وأخْلِقْ». أي: عمرك الله، ومتعك الله بلباسك لتبلى وتخلق.وقولهم: أسلم. أي: سلمك الله لتسلم، ثم لما أقيم مقامه أبقي مسندًا إلى فاعله، وإن كان المطلوب منه هو الله، وهو قريب من قولهم: لاأرينَّك ههنا، أي: لا تجلس حتى أراك، وهو تمثيل أو كناية. كذا في العناية.{ذَلِكَ} إشارة إلى ما دل عليه قوله: {مَا كَانَ} من النهي عن التخلف أو وجوب المشابهة {بِأَنَّهُمْ} أي: بسبب أنهم: {لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} أي: شيء من العطش: {وَلا نَصَبٌ} أي: تعب من السير لاسيما مع العطش {وَلا مَخْمَصَةٌ} أي: مجاعة تضعفهم عن السير: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا} أي: لا يدرسون مكانًا {يُغِيظُ الْكُفَّارَ} أي: الذين هم أعداء الله، وإغضابُ العدوّ يفيد رضا عدوّه {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا} أي: قتلًا أو هزيمة أو سرًا {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي: على إحسانهم. وهو تعليل لـ: {كُتبَ}، وتنبيه على أن تحمل المشاق إحسان، لأن القصد به إعلاء كلمة الله تعالى. اهـ.
وهو أوفق بإسناد الوطء إليهم.والنيل: مصدر (ينالون).يقال: نال منه إذا أصابه برزء.وبذلك لا يقدَّر له مفعول.وحرف (من) مستعمل في التبعيض المجازي المتحقق في الرزية.ورزءُ العدو يكون من ذوات الأعداء بالأسر، ويكون من متاعهم وأموالهم بالسبي والغنم.والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال.فجملة: {كتب لهم به عمل صالح} في موضع الحال، وأغنى حرف الاستثناء عن اقترانها بقد.والضمير في (به) عائد على (نصَب) وما عطف عليه إما بتأويل المذكور وإما لأن إعادة حرف النفي جعلت كل معطوف كالمستقل بالذكر، فأعيد الضمير على كل واحد على البدل كما يعاد الضمير مفردًا على المتعاطفات بـ(أو) باعتبار أن ذلك المتعدد لا يكون في نفس الأمر إلا واحد منه.ومعنى: {كتب لهم به عمل صالح} أن يكتب لهم بكل شيء من أنواع تلك الأعمال عمل صالح، أي جعَل الله كل عمل من تلك الأعمال عملًا صالحًا وإن لم يقصِد به عاملوه تقربًا إلى الله فإن تلك الأعمال تصدر عن أصحابها وهم ذاهلون في غالب الأزمان أو جميعها عن الغاية منها فليست لهم نيات بالتقرب بها إلى الله ولكن الله تعالى بفضله جعلها لهم قربات باعتبار شرف الغاية منها.وذلك بأن جعل لهم عليها ثوابًا كما جعل للأعمال المقصود بها القربة، كما ورد أن نوم الصائم عبادة.وقد دل على هذا المعنى التذييل الذي أفاد التعليل بقوله: {إن الله لا يضيع أجر المحسنين}.ودل هذا التذييل على أنهم كانوا بتلك الأعمال محسنين فدخلوا في عموم قضية {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} بوجه الإيجاز. اهـ.
|